نشأت و«ترعرعت» على عادة أظنها حميدة، وهي نسب الحق لأصحابه، والاعتراف بالفضل لذويه، وتبجيل أرباب العلم وأساطينه، رغم خوفي الشديد من عصا مدرس الابتدائي، وتهديد كل من حولي في مرحلة الصبا والشباب والرجولة وربما الكهولة، بأن يصل التبجيل إلى درجة العبودية لكل من علمنى حرفا، ناهيك عمن زاد فعلمني كلمة، أو جملة، أو مجموعة من الجمل تتراص فيما بينها لتشكل معرفة حقيقية.
وإذا كان الأمر كذلك، فيما يتعلق بصاحب الفضل في تعليم الحرف الواحد، فيما بالك بمن أفاض علي بعطائه، وأفرد لى -ولغيري- صفحات وملفات وموضوعات، وأضنى نفسه في جلب خبرآء في السياسة والأمن وعلوم الاجتماع والنفس والاعلام، لتفسير الظواهر التي تستعصى على فهمي كمواطن بسيط ،وإمدادي بخلاصة عصارة الحقيقة، ألا يستحق هذا مني على الأقل كل إجلال وتقدير -إذا كنت من النوع المتمرد-، وكل الانسحاق والذل والخضوع والعبودية، إذا كنت من النوع المهذب اللين الطيب ؟!.
ومن هذا المنطلق، يطيب لى أن أعترف بالفضل والعرفان لكتيبة الزملاء بمجلة روزاليوسف على سلسلة الملفات السياسية الاجتماعية النفسية الأمنية الشاملة، التى أعدوها لنا على مدار الأسابيع الماضية، وبصفة خاصة هذا الملف «التحفة الخالدة»، الذي قدموه لنا فى عدد يوم ٨ أبريل الماضي، تحت عنوان تصدر الغلاف «مظاهرات المرضى.. أدعو لهم بالشفاء»، وفيه تعرض الزملاء بالنقد والتحليل للتظاهرات، التى شهدتها شوارع مصر خلال الفترة الماضية، ويدعى أصحابها أنهم يطالبون بالإصلاح السياسى، في حين برهن الملف بكل وضوح -وباستخدام نفس الصفات التالية صراحة-، أنهم مجرد مرضى نفسيين، فوضويين، و«صَيع» لامؤاخذة!.
أبرز الملف -على طريقة التراجيديا الفاقعة- نموذج المواطن المصري البسيط، في مواجهة هؤلاء المرضى المتظاهرين أو المتظاهرين المرضى، من خلال التركيز على التناقضات بين النموذجين، سواء من خلال العناوين أو المتن أو الصور الفوتوغرافية.
فهذا عنوان فرعى يقول: المواطن المصرى الأصيل بيجرى وراء لقمة العيش ولا يعرف المظاهرات ولا الهتافات، ثم تعليق تحت صورة تجمع المتظاهرين في مواجهة قوات الأمن يقول: كفاية متاجرة وكفاية شعارات.. فوضويون يعكرون صفو الحياة بالمظاهرات، يقابله تعليق تحت صورة أخرى لعشرات المواطنين في نزهة نيلية يقول: ويزيدون متاعب المصريين البسطاء الذين يستمعون بجمال الحياة في مصر والفسحة على الكورنيش!.
ثم مجموعة أخرى من العناوين: الذعر ساد بين أولياء الأمور خوفا على أولادهم، ونائبة بالشورى تقول انها لم تتمكن من الوصول إلى مجلس الشورى ولا الجامعة ولا البيت، ثم أساتذة فى العلوم السياسية يؤكدون: أن المصريين يعتبرون السياسة عمل الطبقة الغنية والمظاهرات «شغلة» العاطلين، وأن غالبية الناس يفضلون البحث عن عمل إضافي في أوقات فراغهم، ثم علماء الاجتماع يؤكدون: أن هؤلاء المتظاهرين أصابونا بالاكتئاب فاختفت النكتة والابتسامة، ولكنهم يبشروننا أيضا، بأن المصريين مازالوا محافظين على القيم واحترام الكبير -واضح أنهم يرمزون للسلطة بالكبير- والضبط الاجتماعى، لاحظ هنا تعبير الضبط يستدعى فى ذهنك على الفور حواسك الأمنية، وفى نفس الوقت يشير إلى الحالة المقابلة له وهى الانفلات.
ورغم ذلك وحتى لا يترك القائمون على الملف أي فرصة للبس، فأنه لا يفوتهم أن يبرزوا في نفس الصفحة صورتين متناقضين، الأولى لعربة فول والثانية لمتظاهر يزعق أمام ميكروفون إحدى الفضائيات العربية، يحتضنهما تعليق يقول: كفاية مزايدة كفاية فوضوية متظاهر «منفلت» يستعرض حنجرته أمام الفضائيات.. ومصرى بسيط يستمتع بطبق فول.
الخلاصة، أن المواطن المصرى البسيط الأصيل الذى يمثل الأغلبية، لا يهتم بالسياسة ولا يعرفها ويفضل عليها العمل الاضافي وطبق الفول والنزهة النيلية، كما أنه -وكجزء لا يتجزأ من اصالته- يحترم الكبير «السلطة» ولا يتجرأ على مهاجمتها، بعكس تلك القلة الشاردة من المتظاهرين العواطلية الرعاع والحاقدين الغلاويين -كما جاء وصفهم في أماكن متفرقة من الملف- المهتمين بالسياسة.
ولك طبعا أن تحمد الله شاكرا، كون هذه الفئة الموتورة -كما وصفها الملف فى موضع اخر ايضا- لا تمثل القاعدة العريضة من الشعب الطيب، وذلك رغم الحديث المتكرر، الذي تشنف أذاننا به قيادات الحزب الوطنى عن أهمية دفع المواطنين للمشاركة السياسية.
ولك أيضا أن تتساءل عن الوصف المناسب لأعضاء الحزب، الذين خرجوا في مظاهرات تأييد ومبايعة، فمن الواضح أنهم يخالفون القاعدة الشعبية «الأصيلة»، في عدم اهتمامها «الأصيل» بالسياسة وقلة الأدب والمظاهرات، فهل أعضاء الحزب الوطنى «صيع»، «منفلتون»، «رعاع»، أم «عواطلية»؟!.
ولكن وللأمانة، فإن الملف لم يفته، أن يضع إجابة عن هذا السؤال، وذلك التناقض، بطريقة غير مباشرة فى افتتاحية الملف نفسه، حين خصصها لمدح قيادات أحزاب الحوار الوطنى تحت عنوان: يقظة الأحزاب المصرية تعزل وتحاصر الفوضويين.
العمل في السياسة إذا عملة ذات وجهين، فإذا أيدت وباركت وقبلت المشاركة فى ديكور الحوار الوطنى، فأنت مواطن مصرى شريف، وإن لم تفعل أو استبعدت من المشاركة من الأساس، فإن العملة تنقلب على وجهها الأخر، وتصبح «عواطلى- منفلت – صايع».
وطبعا لا يجب أن تطرح سؤالاً حول مصداقية علمية الحصار هذه، في ضوء عدم وجود جماهير من الأساس كما أكد الملف نفسه، بحكم أن الأغلبية الشعبية الشريفة غير معنية بالسياسة على الاطلاق!، كما لا يجب أن تردد تساؤلات تضعك فى مصاف الفوضويين من عينة: هل الصيع المتظاهرون هم من يعطلون المرور ومصالح الناس، أم الأمن؟ أم السادة كبار المسئولين؟، الذين تعود المواطن البسيط على تعطيل مواكبهم لمصالحه، حتى صارت أول جملة تخطر له على بال، عندما يعترضه إختناق مرورى: لابد أن موكب أحد المسئولين يمر الأن، أو فى أفضل الأحوال أنها لجنة مرور تعطل الطريق.. منهم لله!.
إلا أن حتى ذلك الهاجس الذى قد يدور فى خلدى أو خلدك، تحسب له القائمون على الملف، من خلال إفراد صفحتين كاملتين- لتأكيد الولاء والانتماءات، لتحية رجال الأمن، لقدرتهم على ضبط النفس والتسلح بالهدوء في مواجهة المخربين.
ونصل الان إلى أكثر الموضوعات طرافة في هذا الملف القيم الرصين، وهو ذلك الذى تم تخصيصه لتشخيص الحالة الاجتماعية والنفسية للمتظاهرين، وللطبقة الهشة التى يستخدمونها وقودا للمظاهرات، فتحت عنوان: الفوضوى يعانى ضعفاً في النسيج الاجتماعي الناتج عن التفكك الأسري!، وبعد تأكيد العديد من اساتذة علم النفس والاجتماع، أن الفوضوى شخص سيكوباتي، عدو للمجتمع الذي يعيش فيه، وأنه أيضا شخص غير عقلاني، يسعى للحصول على المادة بأى شكل، أو الوصول إلى «السلطة»، أو الإضرار بالآخر للوصول إلى منصبه، تأتى الدكتورة نادية رضوان أستاذة علم الاجتماع بجامعة قناة السويس لتؤكد بدورها: أن الظاهرة -تقصد ظاهرة الفوضويين الذين تصفهم في موضع أخر بالرعاع- ليست مقصوة في طبقة اجتماعية دون أخرى، فهي موجودة أيضا داخل الطبقات العليا في المجمتع، فهناك أساتذة جامعيون وأطباء ومهندسون وصيادلة ومحامون ومن كافة التيارات الثقافية أو الفكرية -يعنى بصريح العبارة كل طوائف الصيع المشاركين في المظاهرات-، يشكلون في بعض الأحيان جماعات منظمة منهم بهدف -ويالا الهول- الضغط على مجموعة أخرى أو الحصول على ميزات شخصية!.
والحقيقة أنه رغم كوني غير متخصص في علم الاجتماع، أستطيع أن أؤكد بحكم اهتمامي بالسياسة، أن التوصيف السابق، الذى استخدمته الدكتورة لتعريف الفوضويين الرعاع، يكاد ينطبق بالضبط على جماعات الضغط وجماعات المصالح والأحزاب السياسية، فهي في نهاية الأمر مجموعات منظمة، تستهدف الضغط من أجل تحقيق مصالح محددة، ومن ثم فإنه وفقا للدكتورة وللملف، فإن أعضاء حزب العمال البريطاني والجمهوري الأمريكي والحزب الوطنى الديمقراطى المصرى، يمكن وصفهم في نهاية المطاف -ومرة أخرى وفقاً لتحليل روزاليوسف وليس تحليلنا نحن- على أنهم فوضويين رعاع، يعانون ضعفا في النسيح الاجتماعى الناتج عن التفكك الأسري، الكامن فى بؤرة الوعي باللاوعين في نخاشيش الإدراك القابع في العقل الباطن! صحيح.. شئ لا يصدكه عكل!.