الإصلاح الإعلامى

الإصلاح الإعلامى
حازم شريف

حازم شريف

8:55 ص, الأحد, 16 يناير 05

في إحدى الجولات الخارجية، التى ضمتني مع بعض الزملاء، قبل نحو ثلاثة أعوام، أنبرى واحد منا يسأل مسئولاً بإحدى الصحف الأمريكية عن شروط إصدار الصحف فى الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أن الرجل لم يستوعب جيداً مغزى السؤال، فأجاب بسذاجة بأنه لا توجد شروط محددة، وأن أي فرد أو مجموعة، بإمكانهم إصدار صحيفة متى رغبوا في ذلك، قفز الزميل القادم من إحدى المؤسسات الحكومية «القومية» مستنكراً- ويبدو أن الإجابة على بساطتها كانت أكبر من قدراته الاستيعابية- قائلاً: ما هذا.. هكذا دون أي ضوابط؟!.

كان المترجم تونسياً عربياً مثلنا، فأغفل ترجمة السؤال الاستنكارى درءًا للفضيحة، إلا أن ابتسامة صفراء خفيفة، لاحت على وجه المسئول الأمريكي الشاب، أعقبت احمراراً كاملاً لوجنتيه ناصعتي البياض، أوحت إليَّ بأن الفضيحة قد حدثت بالفعل، وأنه لابد وقد حدث نفسه في هذه اللحظة بالفعل هامساً: تباً لهم هؤلاء المتوحشون القادمون من العالم الثالث، أي صحفيين يكونون، وأى حرية يستحقونها، وهم يسعدون بتكبيلهم، بل ويستنكفون تمتعهم، وتمتع غيرهم المشروع، بحرية التعبير وابداء الرأى وإصدار الصحف بلا ضوابط!!.
والواقع أنني لم أدين الزميل، فأسئلته الاستنكارية العفوية، ما هي إلا نتاج لمناخ شمولى سائد على مستوى الجماعة الإعلامية والمجتمع ككل، يتعامل مع ملكية وسائل الإعلام بصفة عامة والصحافة بصفة خاصة، على أنها من المحرمات والمحظورات، لا يستثنى من ذلك سوى الدولة، ومن يحظى برضاها من الموالين والاتباع والمرضي عنهم، أو فى أفضل الأحوال غير المغضوب عليهم.

لسنوات طويلة، بات لدينا إعلام رائد على نفسه، ببساطة لأن لا أحد ينافسه، أو بمعنى أدق لا يسمح لأحد بمنافسته، أجيال كاملة من الصحفيين والإعلاميين سحقت، ثم أعيد صهرها في قالب واحد، لا يعرف سوى التسبيح بحمد المسئولين والرؤساء، داخل نطاق العمل أو خارجه، قالب لا يرى سوى الإنجازات-وإن لم تكن كذلك- ،ويغض البصر لا شعورياً عن السلبيات، حتى وإن صدمته بها لحظة إبصار خاطفة.

تفكيك وإزالة كل هذا الركام، وإعادة البناء من جديد على التوازى، هو ما أطلق عليه الإصلاح الإعلامى، قياساً على مصطلحات الإصلاح الأخرى الدارجة في مصر والمنطقة حالياً، وفي مقدمتها السياسى والاقتصادى والتعليمى والثقافى.. إلى آخره.

ومشكلة هذا الإصلاح أنه يتقاطع بين إصلاحيين رئيسيين، أولهما الاقتصادي، وهو ما قد بدأ فى مصر بالفعل، وثانيهما السياسي الذى لا حس عنه أو خبر حتى الآن، وأحسب-وليتنى أكون مخطئاً- أن ما صرح به وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين خلال مؤتمر جمعية شباب المصرفيين الأسبوع الماضي، من ضرورة قيام المؤسسات الصحفية بتوفيق أوضاعها، استعداداً لصدور وتطبيق قانون تنظيم المنافسة ومنع الاحتكار.. أحسبه تصريحاً يعبر عن رؤية واحد من رموز الجناح الاقتصادى للاصلاحات، لا تدعمه على أرض الواقع حتى الآن، أي مؤشرات أو دلالات عن توافر إرادة سياسية حقيقية في اتجاه تحرير صناعة الإعلام، أو على أقل تقدير الحد من الاحتكار الحكومى في أغلب عناصر ومكونات هذه الصناعة، كتوزيع وطباعة الصحف، وحق استغلال المحطات الإذاعية والتليفزيونية الأرضية.

إلا أنه وفى نفس الوقت، فإنه من الصعب تخيل عدم التحرك على الإطلاق في هذا الاتجاه، فالناس كل الناس، لم تعد تطيق صبراً على قراءة ومشاهدة وسماع هذا الكم الهائل من المحتوى الإعلامى المتهافت، الذي يقطر نفاقاً وسذاجة، كما أن الإصلاح الإعلامى، بحكم الخبرة الداخلية المتمثلة في السماح بحرية الحديث والنقد في الصحف الحزبية والمستقلة، وكذلك بحكم منفذ الفضائيات العربية، الذي لا يمكن تجاوزه أو غلقه.. يرجح أن يكون الأقرب إلى التحقق في أرض الواقع مقارنة بشقيقه السياسى.

إلا أن جل ما أخشاه، أن يتم إصلاح جزئى انتقائى، يحرر عنصراً من العناصر ويقيد الباقي، كالسماح بحرية إصدار الصحف، دون إباحة حق تأسيس شركات خاصة للتوزيع، أو إلغاء الإلزام بضرورة الطباعة في مطابع المؤسسات الحكومية، وهو ما من شأنه وضع سقف للتنافسية، يصعب على اللاعبين من القطاع الخاص تجاوزه.

أو أن يكون إصلاحاً انتقائياً من زاوية ما يمكن أن نطلق عليه «شخصنة» التحرير، أى قصر التحرير على أشخاص وجماعات بعينها، كأن يتم منح ترخيص البث الإذاعى لأشخاص دون غيرهم، دون أن نعرف لماذا وكيف، أو حق البث التليفزيونى الأرضي لمستثمر من القطاع الخاص دون الآخرين، دون أن نعرف السبب أيضاً، مما يمهد لاحتكار جديد، ينعم به هذه المرة حفنة من مستثمرى القطاع الخاص!.

دعونا نأمل أن نكون على خطأ، وأن نسعد جميعاً بالإصلاح الإعلامي، كما انتابتنا بعض السعادة مع ما تم حتى الآن من خطوات على طريق الإصلاح الاقتصادي، وأن نغتبط وننتشى ونقفز طرباً من شدة صدمة الفرحة مع إطلاق سراح الإصلاح السياسى.