الأوروبيون قادمون

الأوروبيون قادمون
شريف عطية

شريف عطية

6:26 ص, الثلاثاء, 8 سبتمبر 20

بعد نحو سبعة عقود من أفول الهيمنة الأوروبية عن الشرق الأوسط الفترة ما بين الحربين العالميتين 1917-1945 لصالح الموروث ثنائى القطبية للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى (السابق)، لم يفلحا طوال الحقبة التالية فى إشاعة الاستقرار فى المنطقة، ربما لحداثة عهدهما بالإمبريالية، باستثناء الانحياز الأميركى للمصالح الإسرائيلية منذ خمسينيات القرن الماضى، واتجاه روسيا للانفراج العام مع تركيا فى السنوات الأخيرة.. لاقتسام النفوذ فى المنطقة بينهما، ذلك فيما تعانى الدول الأخرى فى الإقليم من أزمات وحروب داخلية.. عجزت العاصمتان الكبيرتان عن تسويتها نظراً لتضارب أهدافهما من ناحية.. ولندرة خبرتهما بالأوضاع الداخلية الإقليمية، بالمخالفة بما كانت عليه الأحوال زمن الثنائية الأوروبية على رأس النظام الدولى الأسبق، كذلك بسبب المتغيرات الدفاعية الاستراتيجية لكل من واشنطن وموسكو خلال العقد الأخير، سواء من حيث الأولوية الأميركية منذ 2010 لمنطقة آسيا- المحيط الهادئ (لمواجهة التحدى الصيني).. أو من حيث الأهمية التى أولتها روسيا منذ 2014 للمنطقة الأوراسية ذودًا عن حدود الفضاء السوفيتى السابق (القرم- أوكرانيا- بيلاروسيا..)، ما يتوازى مع تراجع نفوذيهما عن منطقة الشرق الأوسط، التى كان من الطبيعى أن يسارع الاتحاد الأوروبي- القوة الصاعدة منذ التسعينيات- لملء الفراغ الناشئ بالمنطقة عن سلبيات التنافس الأميركي- الروسى، ولاستباق سعى الصين فى توظيف ذلك الفراغ لصالحها (التحالف مع إيران مثلا)، ما يدعو الأوروبيين إلى إعادة التفكير نحو التأكيد مجدداً على سياستها المستقلة عن الدولتين العظميين فى الشرق الأوسط (إذ سبقتهم إلى ذلك بريطانيا قبل سنوات “جون ميجور”)، خاصة من حيث ارتباط أمنهما المشترك بالأمن فى البحر المتوسط الذى يمثل «الوصلة» بين المنطقتين المتاخمتين، كلقاء ضرورة تتلاعب رياح عاتية برقعتهما الكونية.. الأبعد كثيرًا عن وضعهما الجغرافى المباشر، سواء بسبب طبيعة أداء القيادات الإقليمية والدولية التى تتعامل مع ملفاتهما الأوروبية والشرق أوسطية بسيان، كما كذلك بسبب تطور الأحداث الظرفية الضاغطة عليها.. سواء من الانتخابات الأميركية إلى المشاريع الصينية والروسية.. مرورًا بالوضع الاقتصادى المأزوم إقليميًّا ودوليًّا، ناهيك عن توابع الجائحة الفيروسية الشاملة.

إلى ذلك وفى سياقه، تتزاحم المبادرات الفرنسية/ الأوروبية.. والأميركية فى كل من لبنان والعراق- مثالاً- ما بين توجهات مختلفة حول مستقبل البلدين العربيين، والمنطقة، خاصة فى ظل علاقات فرنسا المتميزة مع إيران ذات النفوذ فى أكثر من عاصمة عربية، بحيث تبدو باريس (نيابة عن الاتحاد الأوروبي) فى محاكاتها الناشئة للمشروع الإيرانى أقرب إلى ما هو واقع من محاكاة واشنطن وموسكو لمشاريع كل من إسرائيل وتركيا، استطراداً نحو العواصم الأوروبية الأخرى ضمن المجموعة الدولية 5+1 المؤيدة للاتفاق النووى الإيرانى، إذ تقف على الجانب المضاد لواشنطن فى هذا الشأن… إلخ، الأمر الذى أصبح يهدد باحتمال انسحاب أميركا من حلف «الناتو» إذا أعيد انتخاب «ترامب» نوفمبر المقبل، كما ترى العواصم الأوروبية- من جانب آخر- ورغم علاقاتها الطيبة بإسرائيل.. فى تحالف اليمين الإسرائيلى «الليكودى» مع اليمين الأميركى «الشعبوى» (صفقة القرن).. مفتاحًا غير مناسب لعلاقاتها مع الدول العربية، ناهيك عن تصادم العلاقات الأوروبية من جانب ثالث مع المغامرات التركية (ربما بتشجيع أميركى مبطّن) فى شرق البحر المتوسط، وليبيا، كما لابتزازها الجوار الأوروبى بتصدير المهاجرين إليه، إضافة إلى سيطرتها على تحركات «داعش» ومشتقاتها فى داخل الإقليم، وإلى خارجه، ما دعا الاتحاد الأوروبى (بصدارة فرنسا وألمانيا) للتلويح فى منتصف أغسطس الماضى.. بفرض عقوبات على تركيا.. ما لم تنصع للتوقف عن تحركاتها العدائية.

على صعيد متصل، تشير تطورات الأحداث بتشكيل خريطة جديدة فى المنطقة، قد لا تستند إلى جاهزية المدافع للتراشق بقدر اعتمادها على لغة الحوار التى قد تقودها الدبلوماسية الأوروبية، بهدف ملء الفراغ الناشئ عن انسحاب قوات أميركية- مثالاً- منذ أيام من القاعدة الثامنة لها فى العراق (باستثناء قاعدتين لا تزالان)، ما يجعل من التفاعل الأميركى مع الدور الأوروبى بمثابة الحل الوسط المقبول من مختلف الأطراف أو الحالات المشابهة للتجاوب مع مطالب التغيير المحلية من ناحية، ولمواجهة تداعيات التدخلات الروسية الصينية من جانب آخر، فيما قد تصبح أوروبا- الحليفة الغربية القديمة- محطة مناسبة كى يتوقف عندها النفوذ الأميركى إبان انحساره التدريجى، لأسبابه، عن الشرق الأوسط، خاصة مع إجماع أكاديميين دوليين على أرجحية تزامن انتهاء هيمنة الأحادية الأميركية مع حدوث تحول إلى نظام عالمى ثنائى القطبية يكون سجالًا بين الولايات المتحدة والصين (وحلفائهما)، وفيما بين قيم الديمقراطية والحرية واقتصادات السوق الرأسمالية من ناحية.. وبين القيم المعارضة من جانب آخر التى تتبناها الصين وما إليها من النظم اللا ليبرالية، لما يقارب ظهور حرب باردة بين كتلتين عالميتين جديدتين (..)، إلا أنه بالعودة ضمنًا إلى الاتحاد الأوروبى.. فإن أفضل خيار له قد يكون فى اتجاه الصين التى تكتسب نفوذًا استثماريًّا متناميًا (مبادرة الحزام والطريق)، سوف يتيح لدول أوروبية الاستقلال بنفوذها عن الولايات المتحدة، ولاستعادة مجدها السابق عن طريق تحقيقها تكاملًا اقتصاديًّا أكثر قربًا مع الصين، ربما يعينها على استعادة إرث نفوذها الشرق أوسطى الذى استلبته الثنائية الأميركية الروسية قبل نحو سبعة عقود.. تسبق ربما قدوم الأوروبيين مجددًا للمنطقة.