سامانتا باور كانت سفيرة الولايات المتحدة فى الأمم المتحدة إبان إدارة الرئيس باراك أوباما. ومن ثم جسدت، أمام العالم، السياسة الأمريكية. المشكلة، كما تُخبرنا هى فى كتابها الأخير، أنها كانت طيلة أغلب فترات خدمتها على خلاف حاد مع السياسات التى قدمتها ودافعت عنها وسيرتها داخل الجمعية العامة ومجلس الأمن.
لكن الأهمية هنا أن سامانتا باور لم تكن دبلوماسية أمريكية عادية…إنها كاتبة جاءت إلى وظيفتها فى واحدة من أهم مواقع الفعل الأمريكى الخارجى بعد اقترابها من باراك أوباما أثناء حملته الانتخابية، وبدون أى تجربة دبلوماسية من قبل. وقد كان الاقتراب من الدائرة الضيقة حول مرشح الحزب الديمقراطى نتيجة لعقدين من العمل دفاعًا عن حقوق الإنسان وهجوماً على منطق الغلبة والمصالح المطلقة فى السياسة الخارجية.
تلك السيدة كانت أنجح من وثَق للجرائم التى ارتُكبت بحق المسلمين فى البلقان خلال بدايات التسعينات فى كتابها “مشكلة من الجحيم” (و قد كان ولا يزال الكتاب الأهم فى العالم حول التطهير العرقي). كتابها الثانى: “ملاحقة الشعلة”، كان سيرة الدبلوماسى البرازيلى الرائع سيرجيو دى ميلا، والذى قُتِل فى انفجار فى بغداد أثناء خدمته فى بعثة الأمم المتحدة هناك. (ولعل قتل ذلك الرجل خاصة تجسيد للمأساة العربية المتكررة فى مصادقة الشياطين ورجم الملائكة). الكتابان وضعاها فى مقدمة الصحفيين الأمريكيين الذين كتبوا عن إخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية، ليس من ناحية استراتيجية، وليس من ناحية فهم المصالح، ولكن من الناحية الأخلاقية.
سامانتا باور اقتربت من أوباما وهو المرشح الديمقراطى فى الفترة التى تزوجت فيها أحد أهم أساتذة الاجتماع السياسى بجامعة هارفارد، ومعنى ذلك انها جاءت إلى الدوائر العليا للسياسة الأمريكية ليس فقط ووراءها أفكارها وكتبها، ولكن أيضاً بوجود اجتماعى داخل قلعة من قلاع الفكر والتأثير فى الولايات المتحدة.
ومع نجاحاتها الشخصية ووجودها داخل الأرستقراطية الفكرية فى الساحل الشرقى للولايات المتحدة، هى أيضاً سيدة جميلة ذات ثقة وحضور… والحاصل من كل ذلك، أنه بنجاح باراك أوباما فى الانتخابات الرئاسية ودخولها إدارته الأولى، جاءت إلى قلب عملية صنع القرار الأمريكى بحماس للتغيير وباعتقاد أن لديها فرصة تاريخية لإحداث ذلك التغيير.
لكن التغيير لم يحدث…ليس هذا فقط، ولكنها استمرت تعمل من أجل سياسات تشبه كثيراً تلك التى عارضتها (وفضحتها) فى كتابيها الأولين.
تلك المشكلة الفكرية – أو الإنسانية – هى جوهر هذا الكتاب الثالث الصادر فى خريف 2019. الكتاب يمكن أن يُصوًّر كمحاولة لتبرئة نفسها من السياسات الخارجية الأميركية أثناء عملها سفيرة لدى الأمم المتحدة. الكتاب يمكن أيضاً رؤيته كنظرة ناقدة (وإن كان برقة) للعمل الخارجى لباراك أوباما. لكن جوهر الكتاب هو صراع عقلى، فى فكر سامانتا باور، حول مفهوم الأخلاق وثقل حقوق الإنسان داخل توازنات السياسة الخارجية، وحول المسئولية الشخصية عندما تتعارض السياسات التى يجب على المرء تنفيذها مع القيم التى يؤمن بها.
الكتاب تم تسويقه على أنه سيرة ذاتية لتلك المرحلة من حياة سامانتا باور. لكن الأجزاء الأكبر والأهم تدور حول تلك المشكلة الفكرية. هناك فقرات تُدخِلُنا باور فيها داخل تفكيرها وتساؤلاتها: هل تستقيل؟ هل تعبر عن غضبها بخلاف علنى من الرئيس؟ أم تستمر وتبقى فى موضعها محاولة التأثير فى مرة مقبلة؟
هناك لحظات إنسانية. شهور قليلة بعد إنجابها لطفلتها، أوباما يقترب منها بعد اجتماع مهم حول الوضع فى سوريا، عبرت هى فيه بوضوح عن رفضها لسياسات الرئيس ومستشاريه…الرجل يبتسم لها بالرغم من موقفها داخل الاجتماع، ويسألها عن طفلتها…بإمكانها الإمساك باللحظة الإنسانية، بلحظة الصداقة. ربما أن هذا فيه تقوية لوضعها. ربما فيه تفرقة لازمة بين العلاقة فى العمل والعلاقة الشخصية. لكنها لا تستطيع…لا تجيب الرئيس على سؤاله عن الطفلة، وتقول له بهدوء: إن قراره فى الاجتماع خاطئ.
لكن هل هذه اللحظات من الإصرار على الموقف داخل غرفة التقديرات فى البيت الأبيض كافية لتبرئة نفسها، أمام نفسها، مما تراه هى فشلاً أخلاقياً للسياسة الخارجية الأمريكية…هذا تساؤلها هي…و هو تساؤل لن يغير الكثير فى الفعل الخارجى للولايات المتحدة ولن يغير الكثير فى تصور القراء (خاصة غير الأمريكيين) لذلك الفعل. لكنه تساؤل مثير للاهتمام لأنه يربط الأخلاق بالسياسة – وهو ربط نادر – ويأتى ممن لها الحق (بحكم تاريخها) أن تتحدث عن الإخلاق وفى الوقت نفسه من رأت عن قرب شديد صياغة وفِعل السياسة.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن