.. وأخيرًا تلاقَيَا
أكثر من عشر سنوات مضت لم يضربا خلالها موعدًا واحدًا. فقط جمعتهما عدة مصادفات على فترات متباعدة..فى حفل زفاف بيتر ونيفين، اللذين عقدا إكليلهما الكامل فور انتهاء السنة الدراسية الأخيرة بالكلية، فى النادى أثناء حضور تمارين الأولاد، فى مركز تجارى اصطدما وكل منهما يسير فى اتجاه معاكس للآخر، فتصافحا فى عُجَالة، وفى عزاء والد أحمد عبدالباسط، صديق الدراسة المشترك.
تعانقا بحرارة متكلِّفة، قبل أن يستقرا على طاولة مستديرة صغيرة بالنادى اليونانى. طلبا فى نَفَسٍ واحدٍ، من النادل سيد، على غيرعادة كلٍ منهما حين يأتى بمفرده مع صحبته، شاى بالنعناع.
باغته مصطفى بسيل أسئلة عن الأحوال، حرص على إلقائها بأداء مُغلَّف بالاهتمام، دون أن يغفل التوقف بين السؤال والآخر، بعبارات تُلقى اللوم على صديق دراسته، وتحمّله مسئولية تأخر موعدهما المرتقب هذا العدد من السنوات.
استقبل هانى تلك المقدمة التجارية، بابتسامة رسمت ذاتها تلقائيًا على وجهه، ثم تسمّرت، لزمن بدا وكأنه الدهر كله:
ياااااااااه.. مصطفى عبدالواحد!! من كان يتصور أن أتوسمه ملاذى الأخير، بعدما انفضوا من حولى تباعًا!
تساقط المقرَّبون تباعًا، منذ ذلك اليوم المشهود، حين وطأت قدماى أرض الميدان، وتشكلت الخيوط الأولى، لعلاقتى بهذا الكائن الهُلامى المسمى “ثورة”…إثر قرار غامض اتخذتُه فى لحظة إقدام غير مسبوقة، بتلبية دعوة، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى، خفق لها قلبى قبل أن تُشعل نارًا لم تنطفئ فى وجدانى وعقلى بعد، وما أظنها ستخبو أبدًا.
مضت الثمانية عشر يومًا الأولى، فى شد وجذب وعدم تصديق مع الأهل والأصدقاء، حتى “هالة” زوجتى تعللت بهلعها عليّ، لإثنائى عن مواصلة الذهاب يوميًّا للتحرير دون جدوى، بعد أن عجزت عن منعى، اتهاماتها لى بالجنون والانسياق وراء “شوية عيال” مأجورين، يزاولون الخطيئة علنًا فى خيام الميدان، كما “كشفت” وسائل الإعلام.
الفترة الذهبية الوحيدة.. كانت خلال الأسابيع الأولى من تنحى الرئيس الأسبق للرئيسين الحالى والسابق، التى احتفت فيها الفضائيات، والمجلس العسكرى قبل الحالى، ورموز الحزب الحاكم المنحل، ومعارضته الرسمية، بالشباب الطاهر الذى غيّر مجرى التاريخ والمستقبل….أدركت هالة ومَنْ حولى، أنهم كانوا المضللين، وكنت أنا ومَنْ معى على حق، ليبالغوا فى الاحتفاء بى، كما أفرطوا من قبل فى ازدرائى والاستخفاف بى!
“مالك يا هانى سرحان فى إيه”؟
عطّل صوت مصطفى اللزج تدفّق أفكاره، فاندفع فى خجل مبعثِرًا فى الهواء، مقتطفات من دفتر أحواله الشخصية، عمله، بنته ساره، تقدُّم والديه فى العمر، وشكواهما المستمرة من تقصيره معهما و…
——————————–
هانى كامل.. يالنى من معتوه!!
هكذا هتف صوت داخلى من أعماقه، لم يستطع مصطفى أن يخمده فاسترسل: كيف أتوقع أن يدعمنى ذلك النموذج الحى، للأرثوذكسى السلبى المحافظ، الذى لم يهتم يومًا بأى شيء خارج نطاق دراسته وعائلته وكنيسته؟
حتى نيفين، زميلتنا متوسطة الجمال، التى هام بها عِشقًا على نفسه، ولم يتجرأ يومًا على البوح لها بمشاعره، متوهما أن نظراته العاشقة تُفشى سره لها، وأنها تبادله سِرًّا بسرٍّ وغرامًا بغرامٍ…. نيفين التى جعلت منه أضحكوتنا، وحرَمَه ولهُه بها من تحقيق حُلم حياته بالتعيين معيدًا فى الكلية، بعدما أهمل دراسته فانخفض تقديره فى السنة الثالثة لـ”مقبول” بدلاً من “جيد جدًّا” فى أول سنتين دراسيتين…حتى نيفين، لم تكن كافية لإثارة نخوته، حين اكتشف أنها على علاقة حب أفلاطونية صامتة أخرى مع بيتر ابن قسيس كنيستهما، فما كان منه إلا أن انسحب – أو بالأحرى تخيّل الانسحاب كما تخيّل العلاقة – ليتحول بمنتهى النبل “المقيت”، للعب دور الصديق المقرِّب ما بين الطرفين، ليكلل جهوده بحضور زفافهما معنا، ويهاجر العروسان فى أعقابها مع “أبونا” – أبوالعريس – إلى كندا!
حين كنا فى “محمد محمود” و”مجلس الوزراء”، لابد أنه كان فى أفضل الأحوال يلعنَّا ناشدًا للاستقرار، إن لم يكن ضمن المتهمين لنا بالتخريب، ومحاولة هدم مؤسسات الدولة.
بالقطع.. كان قابعًا فى منزله حين أتاه نبأ مذبحة ماسبيرو، ليهرعَ مفزوعًا إلى الكاتدرائية، متوسلاً بركات البابا وحكمته وحمايته لشعبه، بدلاً من النزول لمواجهة السلطة الجائرة…أين هو من هذا الرائع.. مينا دانيال؟!
.. وانت أخبار شغلك إيه؟
بدا سؤال هانى بنعومته المعتادة..قادمًا من عالم بعيد للموتى، يسعى لاستلاب روحه، التى ما زالت تنبض بعناد رغم العُزلة، وطعنات النصال الحادة لألسنة أغلب مذيعى وضيوف الفضائيات ومن خلفهم المواطنون الشرفاء.
لاح فى استجابته للسؤال، أملاً فى مقاومة تسرب ما تبقّى من روحه منه، فتخلّى عن شروده، وتفنّن فى بعْثرة قصص مشاجراته المستمرة مع زملائه ومديره بالعمل، لتكرار تأخرّه، وأحيانًا انقطاعه لأيام بلا إخطار مسبق و…
——————————–
“مينا دانيال لسوء الحظ لم أتعرف عليه أيام التحرير، للمرة الأولى لم نكن نبحث عن بنى ديانتنا لنلوذ ببعضنا البعض”، شرد هانى مرة أخرى متحسرًا على إيقاع صوتى لمصطفى غارق فى الرتابة، يفتقد الحماس: بدأت معرفتى بالمناقشات والقراءة والجدل فى الميدان، وتعمقت فى كل الوقفات والاحتجاجات، وعلى المقاهى وفى النادى اليونانى كل يوم أربعاء مع المهندس سيد محسن، هذا الشاب الرائع، ترافقنا معًا منذ اللحظات الأولى للتظاهرات، قبل أن يُصاب بخرطوش فى قدمه بأحداث الاتحادية، ثم بالإحباط كغيره، ويسافرمنذ شهرين، للعمل كفنى كهرباء فى دولة خليجية.
كل ما تغير مؤخرًا، هو لهجة الحوار، أصبحت متشنجة هيستيرية يشوبها اليأس، بعد أن كانت موضوعية متدفقة يغلفها الأمل فى مراحلها الأولى.
كنت موجودًا فى “ماسبيرو”، حين انطلقت الرصاصات والمدرعات الطائشة لتحصد الأرواح، لم أكن كبعضهم أحمل صليبًا، التحفتُ بعَلَم كبير احتفظت به تفاؤلاً منذ مغادرتى التحرير عقب التنحى.
بدأ القتل وانتهى، وانتشر الصُراخ والعويل والآهات المكلومة، ومازلتُ محتميًا بالعَلَم، الذى تلوّث أبيضه وتبقّع أسوده ونِسره بالدماء.
عندما كان مينا والعشرات يتساقطون…كان مصطفى عبدالواحد حتمًا بفطرته العفنة، يسب الأقباط، ويتأهب للنزول للفتك بهم، بعدما أكد التلفازالرسمى وفضائيات الشيوخ، أنهم يقتلون فى خِسة جنود الجيش البسطاء، قبل أن تنفرج أساريره، فور معرفته، أن المهمة قد أُنجزت بالفعل.
مصطفى هذا الكائن اللزج، الذى لطالما تنطّع عليّ ممازحًا، بنبرة طائفية غير خافية، طارحًا السؤال السخيف السائد “انت مش ناوى تسلم بقى؟”، كيف أتوقع منه اليوم، أن يكون مساندًا متسامحًا؟
أليس هو من كان يعيث فى الأرض فسادًا مع الزميلات على مدار العام، وحين يحل موسم الانتخابات الطلابية، يؤثِر أن يمنح صوته لمرشحى أسرة الجماعة الإسلامية، بحُجة أنه ينبغى أن يدعم الإسلام حتى ولوكان هو مسلمًا عاصيًا!!
هذا الوغد المنافق السطحى العابث..كيف طاف بى بخلدى أصلاً مجرد خاطر، أن يفلح أى شيء فى تغييره؟
…”وانت برضه عندك مشاكل فى الشغل”؟
سؤال ألقاه مصطفى بعدما أعياه شخصيًا الملل من كلماته، قاطع به دون أن يعى حملة الغضب الداخلى العارم المعادية له، فى أعماق صديق دراسته الماثل أمامه كالصنم.
بذات تمرست تاريخيًّا فى إظهار عكس ما تُبطن إيثارًا للسلامة، استخرج هانى بحرفية الجرّاح، وداعة كامنة فى أعماقه، صبغ بها وجهه، قبل أن يشرع فى سرد تفاصيل آخر ما يمكن أن يشغله حاليًا…مناوشاته المستمرة بالمستشفى الذى يعمل به كمحاسب مع حماه ومديره فى آن واحد، الذى تصاعدت حدة اتهاماته له خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بإهماله للعمل، وتواتر أخطائه، و….
——————————–
انكفأ مصطفى على ذاته، ليغوص فى تفاصيل ما حدث: أحمد عبدالباسط المتمرد…اقتربتُ منه بروح التعاطف عقب وفاة والده، فجرّنى معه تدريجيًّا إلى عالمه الخاص، ندوات سياسية وثقافية، أفلام وثائقية وروائية مهمة، حفلات دار الأوبرا، ثم شلة النادى اليونانى، التى تجتمع لتتناقش فى كل هذا وغيره، يوم الخميس من كل أسبوع.
نصحته بالابتعاد عن الممارسة الحركية للسياسة عقب أن أُطلق سراحه من اعتقاله الأول قبل الثورة، لكنى أصبحت معه فى الميدان منذ البداية، وتحوّل موقفى من النصح إلى المشاركة فى تنظيم مسيرات للإفراج عنه وزملائه، حين اعتقل للمرة الثانية فى حكم المجلس العسكرى “الأول”، وثالثة فى عام “تمكين” الرئيس السابق، ورابعة فى عهد الرئيس الحالى.
معظم الأهل والأصدقاء، إما نفضوا أيديهم عن الثورة، وإما تحولوا لأعداء لها لا يطيقون سماع سيرتها. افتقد عبدالباسط بشدة، ألهذا السبب استحضرت هانى كامل من رائحته؟!
صحيح أننا كنا أصدقاء دفعة وشلة واحدة، ولكن شتان بين كامل وعبدالباسط. كيف توقعت أن أشعر بالأُلفة الثورية، مع من تعوّد أن يدير خده الأيسر تلو الأيمن للصفعات دون توقف؟ كيف تخيلت مجرد إمكانية، أن يقتدى مثل هذا، على حين غرة، بتشى جيفارا أوحتى مارتن لوثر كينج؟!
كيف لم أفكر قبل ان أتورط فى دعوته للقاء، فى دعوته أولاً لصفحتى على الفيسبوك، حتى أقيّم موقفه من الثورة من تعليقاته فى العالم الافتراضي؟ هو بالغ التحفظ، لم يكن ليبادر أبدًا، بطلب صداقتى، أظن أن أغلب معارفه على الفضاء الإلكترونى، من أبناء معموديته.
——————————–أفاق مصطفى مستغربًا على صوت هانى يرتفع – لأول مرة منذ تعارفهما منذ ما يربو على خمسة عشر عامًا فى فناء الكلية – مناديًا “سيد” بعصبية، لجلب فاتورة الحساب.
تعازما على دفع قيمتها بفتور، ليتشاركا فى النهاية، وافترقا بعد أن تبادلا عبارات “أكلشيهية”، تتعهد بلقاء ثانٍ فى القريب العاجل.
——————————–
بمجرد أن أدار مصطفى مِفتاحه فى مزلاج باب الشقة، اخترق رأسه صراخ لمذيع فضائى يكاد يغشى عليه من الانفعال، فى وصلة منفردة أنهاها بسؤال استنكارى، قاصدًا أن يفحم به، تلك القلة التى تهاجم السلطة: انتم ليه ضدنا؟ انتم ليه مش معانا ضد الإرهابيين والمؤامرات الغربية؟
دون أن يشعر أحد بوصوله، تجاوز فى مسيرته القصيرة لغرفة مكتبه، شاشة تلفاز فى مواجهتها أريكة، تجاورت عليها زوجته وحماته جالستين منتبهتين، متشابكتى الأيدى، فى حركة لا إرادية تعكس عدم شعورهما بالأمن والأمان.
فتح صفحته على الفيسبوك، وجد طلب إضافة جديدًا.. قرأ الاسم، هانى كامل، ضغط خانة القبول على الفور. بعد نحو ساعة من التصفح الهيستيرى المتبادل، اندلع حوار حميمى على الـ”إينبوكس”، حتى الصباح الباكر.
قبل أن يأويا للنوم، كانا قد اتفقا على الاجتماع بالنادى اليونانى مرتين أسبوعيًّا… يومى الأربعاء والخميس.