فى بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبى، كانت الكثير من العيون باكية. بريطانيون يشعرون بالحزن على خروج بلدهم من المشروع الأوروبى بعد تقريبًا خمسين سنة من لعب دور رئيسى فيه. وأوروبيون – غير بريطانيين – يشعرون بأن هذا المشروع فقد جزءاً مهماً منه الآن، وقد جاء الفقد بناءً على مشاعر رفض، وقد كان فى ذلك إلى جانب الرفض، جرح.
فى لندن، عزف البعض رائعة بيتهوڤن «تقدير للبهجة»، وهى اللحن شبه الرسمى للاتحاد الأوروبى، معبرين عن حبهم للقارة الجميلة والمشروع التوحيدى فيها، بينما فتح آخرون زجاجات الشمبانيا ابتهاجًا بالخروج من هذا المشروع والحصول على، ما يرونه، استقلال القرار البريطانى، وفى عمق ذلك، حرية الهوية الإنجليزية.
فى الحقيقة، لا شيء تغير فى 31 يناير 2020. قانونًا وفى كل النواحى العملية، العلاقات الاقتصادية وكل ما يتعلق بحرية الحركة، بريطانيا والاتحاد الأوروبى دخلا الآن فى مرحلة انتقال ستستمر على الأقل إلى آخر 2020، والغالب أنه ستكون هناك تمديدات، ذلك أن الاتفاقات التى يتحتم إنهاؤها فى تلك المرحلة الانتقالية شديدة التعقيد، كما أنه سيعقبها إقرارات من برلمانات مختلفة (فى بريطانيا ثم فى دول الاتحاد الأوروبى)، وكل ذلك، غالباً سيأخذ أكثر من عام.
لكن هناك ثلاثة أسئلة تطرح نفسها.
السؤال الأول بدا واضحًا فى بروكسل. أوروبا تعلم أن بريطانيا كانت من أدخل فكرة الاقتصاد الحر، على نهج قريب من التصور الأمريكى، لى داخل المشروع الأوروبى. ولعل ذلك هو الإرث الأهم لرئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر فى أوروبا. لكن فكرة الاقتصاد الحر كانت، ولا تزال، لها معارضون فى دوائر صنع القرار فى أهم العواصم الأوروبية، خاصة باريس وبرلين. كما أن كثيرين فى جنوب أوروبا، وهم مستفيدون من الثراء فى الشمال، وخاصة فى ألمانيا، ليسوا على وئام مع فكرة الاقتصاد الحر القائم على القوة الإنتاجية وحرية التنافس. كل ذلك يدعو العديد من المفكرين داخل أروقة الاتحاد الأوروبى الى رؤية محاذير حول اتجاهات القرارات الاقتصادية فى عدد من دول أوروبا، وتأثيراتها على الاتحاد ككل، فى المرحلة المقبلة التى سيغيب فيها الرأى البريطانى عن أوروبا.
السؤال الثانى تتردد أصداءه فى بروكسل كما فى لندن، وهو حول نوع المنافسة الاقتصادية الذى ستمارسه بريطانيا للمشروع الأوروبى. هناك نقاط محسومة. مثلاً، بريطانيا كانت وستظل على الأقل فى المستقبل المنظورً، المركز المالى الأهم خارج الولايات المتحدة وآسيا، ذلك أن أوروبا لا تملك البنية التحتية من التقاليد الفكرية، (خاصة نحو حرية التجارة واحترام الملكية بغض النظر عن الجنسية والحرية المطلقة للفكر) كما لا تملك تمركز المواهب الموجود فى إنجلترا، أو لندن على وجه الدقة. من ناحية أخرى، هناك صناعات بريطانية تعلم أنها لا تملك فيها آى مقدرة تنافسية حقيقية، مثل الصناعات الإلكترونية والكيميائية والديناميكية التى تتمركز أهم شركاتها فى أوروبا (أو ألمانيا بشكل رئيسى، وفرنسا بقدر أقل). لكن، لا صناعة التمويل ولا الصناعات السابق ذكرها هى ما سيصنع المستقبل. الأهمية الحقيقية الآن لصناعات التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الصناعى، تعلم الأجهزة، فيزياء الكم (Quantum Physics) ، البيولوجيا الحيوية، وغيرها .. وفى كل ذلك بريطانيا (وخاصة إنجلترا) أكثر تقدماً من أوروبا، لكن هناك طموحاً أوروبياً كبيراً فى تلك المجالات، خاصة أن هناك إدراكاً أوروبى انها لو لم تطور قدرات كبرى فى تلك المجالات، فإنها ذاهبة إلى تبعية علمية، ومن ثَم إقتصادية، ومن ثَم سياسية، للولايات المتحدة وربما للصين. ولذلك، فإن نوعية التنافس (أو التعاون) البريطانى-الأوروبى هنا ستكون ذات أهمية كبرى.
السؤال الثالث حول درجة القرب البريطانى – الأمريكى فى المرحلة المقبلة. والمهم هنا ليس العلاقة الجيدة بين الرئيس دونالد ترامب ورئيس الوزراء بوريس جونسون. المهم – والذى يفكر فيه عدد من أهم مراكز البحث فى أوروبا، بما فيه مراكز داخل وزارات خارجية فى دول مؤثرة – هو التقارب بين القوى النافذة فى حزب المحافظين الحاكم الآن وحده (بدون ائتلاف) فى بريطانيا وبين قوى شديدة التأثير فى الحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة، وهو تاريخياً أبعد (مقارنة بالحزب الديمقراطى) من أوروبا وفيه من يشُك فى الاتجاهات الاستراتيجية للاتحاد الأوروبى ويراها بعيدة عن التصورات الأمريكية. بريطانيا مهمة جدًا فى تلك الديناميكية الأوروبية الأمريكية. لذلك فإن اتجاه السير البريطاني هنا ستكون له توابع.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن