الفرق بين المهنى المحترف والسياسي، يتمثل فى رغبة الأول أن يركض إلى الأمام كالقطار بأقصى سرعة على قضبان لا يحيد عنها أبداً، أما الثانى فيشبه فى سلوكه راكبى الدراجات، لا يسعه سوى السير فى خطوط متعرجة لتلافى زحام المرور و«الجماهير»، ينحرف إلى اليمين تارة وإلى اليسار تارة أخرى، قبل أن يستقيم للحظات معدودات، سرعان ما يرتد بعدها للمناورة.
فى مؤتمر إصلاح القطاع المالى فى مصر الذى نظمته الغرفة الأمريكية بالقاهرة الأسبوع الماضى، احتشد عدد كبير من قيادات وكوادر القطاع المالى المحترفين، بهدف وضع حلول وسبل تطويره، ورفعها فى صورة توصيات محددة للحكومة، كمساهمة منهم فى عملية الإصلاح.
وقد أجهد المنظمون أنفسهم فى إعداد الأوراق البحثية، فيما اجتهد الحاضرون فى النقاش وطرح التساؤلات وإبداء الآراء.
والتوصيات معروفة ومحفوظة من كثرة ما رددها الحاضرون وغيرهم بل وأعضاء الحكومة أنفسهم فى كثير من المناسبات على مدار السنوات الماضية، دون أن يشهد الواقع تغيرا ملموسا، اللهم سوى بعض الإصلاحات الجزئية هنا وهناك، التى عابها أحيانا سوء التوقيت، وفى جميع الأحيان غياب التجانس وعدم اكتمال العناصر اللازمة، لإنجاح هذه الخطوات الجزئية.
والأمثلة كثيرة.. قرار تحرير سعر الصرف قبل توافر الأدوات اللازمة لنجاحه فى حيز التطبيق، اختزال عملية الإصلاح المصرفى فى استبدال القيادات، تضارب القوانين والتشريعات واللوائح والقرارات الحكومية.
وهنا يصبح السؤال: لماذا لا تقدم الحكومة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة بالسرعة المناسبة، والتجانس والترابط اللازمين؟
أو بصيغة أخرى ألقاها الدكتور أحمد جلال، المدير التنفيذى للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية على رأس الحاضرين لمؤتمر الغرفة الأمريكية: كيف نقنع الحكومة بتنفيذ الإصلاح؟
وهذا ما يعود بنا إلى مسألة الفرق بين المحترف والسياسى.
فالحكومة هذا «الكائن السياسى» لا تستطيع السير كالقطار، نعم يمكنها أن تسمع، وأن تناقش وأن تقر بضرورة الإصلاح، بل وتزايد بإصلاحها على إصلاح الآخرين، تماما كما تعترف بأن هذا الإصلاح لابد له من ثمن، يجب تقبله ودفعه عن طيب خاطر، من أجل جنى نتائجه والخروج من منطقة عنق الزجاجة.
لكن المشكلة أن الحكومة تعرف أيضاً بصفتها «كائنا سياسيا»، أنها أول من سيدفع الثمن، صحيح بل ومن المؤكد، أن الكثيرين سيعانون وسيدفعون أيضا قبلها، ولكنها ستتحمل فى نهاية الأمر دفع قيمة الفاتورة بالكامل.
القضية إذن لا تكمن فى إقناع الحكومة بالإصلاح، إذ أنها مقتنعة به من رأسها إلى أخمص قدميها، وإنما فى تهيئة الظروف المناسبة لها من الناحية السياسية، كى تستطيع السير بأقصى سرعة على الصراط المستقيم للإصلاح.
إلا أن ذلك لسوء الحظ، لا يمكن أن يتم سوى بتوافر نوع من أنواع التوافق الجماعى بين مصالح الفئات المختلفة، كمنظمات الأعمال والمهنيين واتحادات العمال وغيرها من مؤسسات المجتمع المدنى، وهو الأمر الذى تعترض الوصول إليه الحكومة نفسها وحزبها، بإصرارهما المستديم على الادعاء، بأنهما يعبران عن جميع المصالح حتى باتت الحكومة والحزب تحديدا مرتعا لأصحاب «المصالح» الفردية الضيقة من فئات المجتمع المختلفة، والذين يزعمون تمثيلهم لمصالح فئاتهم، وهم فى حقيقة الأمر يتخذون من عضويته سبيلا للحراك السياسى والاجتماعى ليس أكثر.
إن فصل المصالح فى جماعات ضغط حقيقية تعبر بقوة عن فئة من تمثلهم، هو الخطوة الأولى على طريق الحوار والتفاوض الجماعى للوصول إلى صيغة توافقية للإصلاح بشقيه السياسى والاقتصادى والمالى بطبيعة الحال، ومن ثم تهيئة المناخ سياسيا للحكومة، أى حكومة، للإقدام بسرعة وجرأة على تنفيذ هذا الإصلاح.
وبدون ذلك لن تتحرك الحكومة إلى الأمام، وستراوح مكانها بين المناورة والمراوغة والخطوات الجزئية المبتسرة والمتناقضة فى بعض الأحيان وسيظل جلال وزملاؤه يتساءلون عن كيفية إقناعها دون أن تشفى الإجابات والنتائج غليلهم فى أرض الواقع!
حازم شريف
8:40 ص, الأحد, 2 مايو 04
End of current post