ليس أشد عداوة للإسلام أو المسيحية.. ممن استنفر ماديته لدحض روحانياتهما، إذ يحسبها سبيله للتفوق على «الأغيار»، وليصبح من فرط الحرص على اكتناز الثروة وسيلته للمزيد من القوة، يتكبد لعنة تاريخية.. كلما تعرضت الأمم الحاضنة لشتاتهم.. إلى تصدع اجتماعى واقتصادى، سرعان ما يلقى الحكام حينئذ بفقرانهم إلى الجماهير الثائرة، كبش فداء، لامتصاص غضبهم، فيما يتخلص الحكام فى الوقت نفسه من ديونهم لأثرياء الطائفة، ذلك على النحو الجارى منذ «سفر الخروج» إلى ما يلقونه من مذابح واضطهاد فى أنحاء شتى من العالم، حتى باتت مسألة «اليهودى التائه» تؤرق ضمائر الأوروبيين فى عصر الأنوار، حيث لم يجدوا سبيلاً لتسويتها غير تصديرها للخارج من خلال الوعد بما لا يملكونه فى العام 1917.. بوطن قومى لهم لا يستحقونه.. فى قلب المنطقة العربية، ذلك ضمن صفقة احتكارية مالية متبادلة بين الرأسمالية الاستعمارية والصهيونية الدولية، أذنت بزرع دولة إسرائيل فى العام 1948، كمجتمع حرب تفرضه ضرورة توسعية ضد افتراض عدو خارجى حقيقى أو مفترض لكى يحول ذلك دون ذوبان نسائجهم الموزاييكية المجلوبة رقائقها العنصرية المختلفة من شتى بقاع الأرض، إلا أن جولاتهم العسكرية رغم الانتصار فى معظمها لم تسفر عن الغرض منها- بلا غالب أو مغلوب- حضاريا، بين أطراف الصراع العربي- الإسرائيلى، حتى لم يعد من بُدّ غير الالتحام السلمى كضرورة وجودية منذ السبعينات، ولأمد غير منظور، لكن من شبّ عليه المرء.. شاب عليه، فإذ بالحروب العاجزة عن تحقيق الغايات العليا للمشروع الصهيونى.. إذ تنعكس أهدافه التوسعية بالمثل إلى سلام مراوغ يبتغى تحقيق ما عجزت عنه الحرب، ذلك من خلال لفظ روابط ومنظومات أنفار السلام بقدر الخشية من تبعات أثاره السلبية على مجتمع إسرائيلى يعاني- بحق وباعتراف علماء السياسة والاجتماع اليهود- من «توترات اجتماعية وطائفية ودينية، ومن تجذر الخلافات البينية إلى ما يشبه الجنون المطبق»، ناهيك عن التفرقة العنصرية والسياسية بين اليهود الشرقيين وبين «أولاد الموت» من يهود شرق أوروبا، ذلك فيما تتزايد الأطماع المادية لليمين التوراتى نحو «ضم الأراضى»، المحتلة، سبيلاً كما الأمس البعيد، للتفوق على «الأغيار»، وكأنهم لم يتعلموا شيئاً من سابق عن اللعنات التاريخية، التى لم تعد آثارها تقتصر عليهم فقط، بل من المرجح امتدادها إلى ما يهدد مجمل السلم والأمن الإقليمى والدولى، خاصة فى ضوء تأزم كل من الأوضاع الداخلية والتحركات الخارجية، سواء على مستوى أطراف النظام الدولى المائل نحو السيولة أو فى داخل الإقليم الذى يشهد صراع قومياته الرئيسية عمن يكون له قصب السبق للهيمنة على المنطقة، إذ لا بديل- والوضع كذلك- غير نزع الفتيل من أيدى الصغار المتلاعبين سواء بمتفجرات غير تقليدية أو بالتلويح باحتكارها السلاح النووى لإجبار «الأغيار» على التسليم بسلام الأمر الواقع من مركز القوة المطلقة، دونها المضى فى سباق التسلح غير مأمون العواقب، ربما على البشرية جمعاء، خاصة وقد أصبحت مصائرها معلقة بخيوط رفيعة مع ائتلافات دولية ومحلية هشة، أصغر مكانة من إدارة هكذا صراعات معقدة أو لتحقيق غايات عليا «غير واقعية».. لا قبل لهم بمباشرة خطورة تبعاتها المثيرة، حيث لن تُبقى ولن تذر.
إلى ذلك، وقد أصبح الهروب من السلام «المراوغ» يعادل- إن لم يفق- ما يمثل حربا ليست غير علنية، ربما لأبعد من أطراف الصراع العربي- الإسرائيلى، خاصة مع هشاشة التطبيع الآتى من القمة.. وليس نابعًا من الجذور، فقد وجب على المجتمع الدولى، والحال كذلك، المطالبة بموقف جاد إزاء مراوغة إسرائيل لقبول «حل الدولتين»، كحد أدنى ارتضته قرارات الشرعية الدولية، ما يمنع قيام الدولة العبرية عن إجراءات أحادية الجانب، كالتوسع الاستيطانى مثالاً، بهدف الحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة، سوف تؤدى بالأمور عندئذ فى داخل الإقليم إلى مفترق طرق، دون مخاطرها المحدقة رؤى العين، الالتزام بعقد مؤتمر دولى للسلام يتراوح فى مكانه منذ ديسمبر 1973 وفى نهاية 1991، دون التقدم ولو قيد أنملة إلى الأمام نحو إنجاز تسوية نهائية وشاملة بناءً على قرارات الشرعية الدولية، إذ يبدو الوسيط الأميركى، بوصفه المحتكر الوحيد للأساليب الإجرائية لكل من تعقيدات الحرب والسلام منذ نوفمبر 1973، إذ يفضل دوام حالة «اللاسلم واللاحرب» القائمة، لصالحه، منذ نوفمبر 1973، ذلك دون أن ينبس ببنت شفة دبلوماسيون (..) كانوا من حضور ندوة بالأهرام يوليو 1972.. أدانوا خلالها الاتحاد السوفيتى للسبب ذاته، قبل أن يتولوا ملفات الصراع بوزارة الخارجية منذ نوفمبر 1973، وصولًا إلى ما انتهت إليه فى «كامب ديفيد» 1978، فيما لم تساوى المبادرات والتفاهمات الأمريكية بشأن السلام منذ ذلك التاريخ.. المداد المكتوبة به، ما يشجع أنصار «المادية» الإسرائيلية إلى مبايعة «الأحزاب اليمينية غير الجادة فى تناول القضايا المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين، غير أنه «من الجائز» حدوث جديد عند انتقال رئاسة الائتلاف الحاكم فى نصفيته نوفمبر 2023 إلى «لبيد» المؤيد لـ«حل الدولتين»، ليفلح فى ذلك، خاصة فى ضوء «مهلة العام» التى أعطاها الرئيس الفلسطينى لإسرائيل للعودة إلى «حل الدولتين»، وهى التى يخطط لها من الآن وزراء من الجانبين بغرض إعادة طرحها، فيما يؤكد الرئيس الأميركى أن «لا حل أفضل منها»، لكن «ليس على المدى القريب»، (ربما إلى جيل مقبل)، الأمر الذى يفرض على الجانب العربى إعادة التخطيط لمبادئ ومحاذير السلام، ومقدماته، وعناصره، وطرق الوصول إليها، مع الهدف النهائى منه، للحيلولة دون شن حرب جديدة سبق لإسرائيل أن كسبت معظم جولاتها منذ 1948، ومن ثم للتوصل إلى سلام عادل تروم إسرائيل بمراوغاتها إليه كسب جولاته من مركز القوة، وبما عجزت عن تحقيقه حتى الآن، سواء من خلال حروب عدمية مفلسة.. أو عبر السلام البديل المراوغ.