لم تكن قنوات الاتصال بين البيت الأبيض والكرملين- رغم تشوش خلافاتهما- «استثناء انفراجهما العام 1990، أكثر انفتاحا عما أصبحت عليه فى عهد الإدارة الأميركية الحالية، التى حامت حولها الاتهامات بتدخل روسيا غير المباشر إلى جانبها فى الانتخابات الرئاسية 2016، لإسقاط المنافس الديمقراطى للرئيس «ترامب»، ما تسبب للأخير فى مشاكل داخلية إضافية.. حالت بين سيولة تمرير اتفاقات أو تذليل عقبات لقضايا مختلفة بين الإدارتين الأميركية والروسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من المرجح أن تخفت حدتها بالتوازى مع كشف النتائج النهائية لتقرير لجنة «مولر».. المكلفة بالتحقيق فى التدخل الروسى فى الانتخابات الأميركية، ما قد يشرع لصفحة إيجابية عن ذى قبل فى العلاقات بين البلدين، تبدو ملامحهما الأولية هذه الأيام فى الشرق الأوسط، إذ يتوافق الموقف الأميركى لأول مرة مع الموقف الروسى ضد مشروع القرار البريطانى فى مجلس الأمن.. الداعى لوقف إطلاق النار فى الحرب الدائرة فى ليبيا حالياً.. كذا مع إلقاء اللوم على الجيش الليبى فى اندلاعها، الأمر الذى يدعو للتساؤل عن ماهية التوافق الأميركى الروسى ضد مشروع القرار البريطانى (خصماً من الرصيد الأوروبى فى الحالة الليبية)، إذ ربما يعنى ضمن مسائل توافقية أخرى مشابهة بينهما.. سواء فى السودان أو عن محادثات «مثمرة» بينهما حول سوريا 19/ 4، تقارباً ثنائياً مرتقباً، لو لم يكن ذلك من قبيل التسرع فى الحكم على الأمور قبل أن تتضح الصورة النهائية لما يدور على مسرح العمليات فى المنطقة، أو أن يمثل ذلك بالفعل استئنافاً لحقبة جديدة لتطورات مستقبلية على صعيد النظام الدولى، الذى يشهد خلال العقود الثلاثة الأخيرة- منذ انتهاء الحرب الباردة- تحولات دراماتيكية.. يحبس العالم أنفاسه لما سوف تنتهى إليه المرحلة الانتقالية الحرجة القائمة، ما بين تسريبات عن نشوب حرب عالمية ثالثة.. يعمل الجميع- رغم التلويح بها- على تجنبها، وبين السعى لبناء نظام دولى تعددي.. يضم إلى جانب القوى الكبرى السابقة.. كلاً من دول الاقتصادات الصاعدة المنضوية فى تكتلات إقليمية ودولية، أو بين العودة إلى نظام الثنائية القطبية- المفضل من وجهة نظر روسيا، خاصة فى ميدان الأمن العسكرى والنووي.. الحريصة فى الحفاظ على مرتبتها فى هذا المجال، رغم مرورها فى التسعينيات، كلينتون-يلتسن، بمرحلة سقوط مذل، استمرت لما بعد بداية القرن الجديد.. حيث كان القاطنون الجدد للبيت الأبيض من المحافظين الجدد «بوش»، أكثر قسوة وبرجماتية، رغم مواصلة «بوتين» تحركه فى اتجاه الغرب، فإن ذلك لم يمنع واشنطن من التصرف بشكل أحادي.. ومتغطرس.. يقطع بالرغبة والهيمنة على العالم، وإلى محاولة إضعاف روسيا، ما دعا «بوتين» خلال مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبى 2006 إلى توجيه انتقادات حادة غير مسبوقة ضد السياسة الأميركية، وليبدأ من هذا التاريخ ما يشير إلى تجدد الحرب الباردة- لعقد تال- حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016 التى احتوت على إشارات إيجابية متبادلة بين الجانبين، رغم تراجع زخمها من بعد لأسباب مختلفة، خاصة أن المجتمع السياسى الأميركى يظل موزعاً بين الدعوة المتحالفة مع «الإصلاح الروسي».. وبين التضارب الخفى والدراماتيكى للمصالح والأساطير الذى ما زال حياً بينهما.. مترافقاًَ مع بقايا موروثات سوفيتية وقيصرية تعوق من الاستعداد لإدماج روسيا فى المنطقة الغربية، ما يدفعها من ثم فى إطار قواعد اللعبة الدولية نحو التعاون الاستراتيجى مع الصين، وبشكل طردى لما يشوب علاقتيهما من توترات مع الولايات المتحدة، قد ينبئ باحتكاكات خشنة بين الولايات المتحدة والعاصمتين الشرقيتين الكبيرتين، لدوافع جيواقتصادية فى المقام الأول.. سواء فى المحيط الهادى وأوروبا والشرق الأوسط «الموسع» الأمر الذى يدعو هيئات الأمن القومى الأميركي.. خاصة البنتاجون أن تعيد النظر الآن فى ثوابت استراتيجية أميركية عملت على أساسها منذ الانفراج غير المحدود مع روسيا مطلع التسعينيات، مروراً بمواقف سيكولوجية لم تراع معها واشنطن الحفاظ على هيبة القومية الروسية، ما جدد الحرب الباردة بينهما.. وصولاً ربما إلى إيجاد نوع من الشراكة ليست غير كاملة مع روسيا، من باب التجريب، وفى إطار موازنة علاقاتهما مع الصين، نحو سياسة واقعية جديدة متعددة الاتجاهات.
End of current post