مازلت أرى أن المشكلة والحل فى قضية الإصلاح بكافة أنواعه السياسى والاقتصادى والإعلامى والتعليمى، إلى آخره، لا يتجسدان بصورة جوهرية في إحلال وجوه وهامات جديدة شابة، بدلاً من وجوه وأجساد الوزراء القديمة المتهالكة، وإنما فى كيفية تفكيك وإعادة تركيب، هذه الآلة البيروقراطية الضخمة التي تقطر فساداً، وتمتد أذرعها الإخطبوطية في جميع أجهزة الدولة، وتتضافر في إلقاء شباكها على مصالح المواطنين، بجميع طبقاتهم الاجتماعية.
آلة لها وجهان، الأول طيع بشوش يستقبل المسئولين، يسترسل في كلامه المعسول، حول جودة الخدمة والأداء وروعة الإنجاز وحلاوة الريادة، الوجه الآخر عبوس أو في أفضل الأحوال غير مبال، يكشر عن أنيابه، في مواجهة كل من يلقى به حظه العثر في طريقه، لتحقيق مصلحة أو قضاء حاجة مشروعة.
مرافق ومصالح وأبنية تتجمل وتتزين انتظاراً لزيارة مفاجئة من وزير، لتعود مرة أخرى في طرفة عين، إلى حالتها الروتينية العكرة في مواجهة مرتاديها اليوميين الأولى بالرعاية، فلا يجدون سوى غم وكرب، وخدمة متدنية المستوى، لا تصلح للاستهلاك الآدمى في حال تقديمها، إذا وجد من يقدمها من الأساس.
مصالح مئات الآلاف من الموظفين في مواجهة مصالح عشرات الملايين من المواطنين، لا استثمار أو استثمار، رفع معدلات البطالة أو خلق فرص عمل جديدة، فساد الجباية في مقابل حقوق المواطنة والحد الأدنى من الحياة الكريمة، هذه هى المعادلات التى نحن بصددها، أو هكذا ينبغى أن تطرح، كي تحفز الجميع على حلها وحسمها فى الاتجاه الصحيح.
حالة الإفاقة لا يجب أن تقتصر فقط على قيادات قطاعات معينة، بل يجب نشرها لتتغلغل فى دهاليز وأروقة كافة المصالح والجهات والوزارات والقطاعات الحكومية، الكوادر التي يتم استقطابها من القطاع الخاص،يتحتم أن تتكاثر أعدادها، عشرات الأفراد لاتكفي، بل عشرات الألوف من الشباب المتحمس، لابد من غرسهم في أدغال ومستنقعات الفساد والبلادة والتيبس، حتى يتسنى تجفيفها وحرثها وتكسيتها بلون الخضرة بدلاً من الصفرة الذابلة والقفور.
وأختتم بنكتة لا تحدث فى أرض الواقع سوى فى مصر.
في ليلة الثلاثاء قبل الماضي، عشية وقفة عيد الأضحى مباشرة، اصطحب صديق أفراد أسرته إلى محطة قطارات الجيزة، قاصداً زيارة عائلته في مسقط رأسه بصعيد مصر، على الرصيف وبينما يتأهبون لركوب القطار، ألح عليه طفله الصغير في الذهاب إلى دورة المياه، طاف به مسرعاً على جميع دورات المياه، فوجدها ليست سيئة ولا بحالة يرثى لها أو كريهة، بل موصدة الأبواب!.
اقترب من أحد العاملين المنتشرين على الرصيف، وسأله فى براءة، يبدو أنه قد استوحاها من طفله الصغير: هي الحمامات مقفولة ليه؟ انزلقت الإجابة على لسان الرجل في سلاسة وتلقائية الواثق من منطقية رده: أصل الوزير جاى بكره!.
لقد قام السادة المسئولون عن المحطة، بتنظيف وتلميع الحمامات وتعطيرها، ثم أغلقوها خشية أن يلوثها المواطنون،- الذين يدفعون رواتبهم وراتب الوزير- ، قبل زيارة السيد الوزير في اليوم التالى، كى يراها سيادته براقة عطرة، لا عطنة كما تعود عليها من كتب عليهم زيارتها يومياً.
ولعل الوزير قد بهره ما شهده في اليوم التالي، وربما تساءل في داخله عن كونه على حق، هو وزملاؤه الإصلاحيون في الحزب، فيما يطرحونه من تصورات وأفكار لتغيير الواقع، الذي ظهر واضحاً جلياً أمامه، أنه «أنضف من الصينى»، بل لعل التأثر بلغ به مداه، فربت فى حنان على كتف مواطن يقضى حاجته- غالباً هو أحد العاملين بالمحطة أمره رؤساؤه بالتنكر فى زى مواطن-، ليسأله عن مدى ما يشعر به من راحة وانبساط،ليأتيه رد يطمئن القلب،متمثلا في ابتسامة واسعة،تنم عن تدفق أحاسيس السعادة والهجة والسرور!.
وسواء انطلت الخدعة على الوزير أم لا، فإن الأمر اللافت للنظر حقاً، والذي يؤكد ما ذكرناه من ضرورة الإسراع بالتغيير من أسفل، هو طبيعة تلك الثقافة الجهنمية، التي يجسدها رد موظف المحطة على صديقى المواطن، والتي تعتبر غلق الحمامات فى وجه العباد أمراً منطقياً، استعداداً لزيارة السيد الوزير.!