فى البداية ينبغى على أن أعترف، حين أشاهد فيلماً لـ«هالة خليل»، يختلط داخلى نوعان من المقاومة، الأولى تعمل ضد شعورى بالانحياز المسبق لها، بحكم الانتماء لنفس الجيل، وتقاسم سنوات الدراسة والخبرات المشتركة مع مجموعة أصدقاء العمر، والثانية تتولد تلقائياً، كى تسعى لخفض سقف توقعاتى المرتفع دائماً، تجاه قيمة ما هي بصدد إبداعه، وما أنا مقدم على تلقيه.
ولسوء حظ هالة معى- أو المخرجة كما تعودت أن أطلق عليها منذ سنوات- فإن كلتا المقاومتين، لا تعملان فى صالحها فى كثير من الأحيان.
فالأولى غالباً ما تدفعنى إلى الإفراط فى الانتقاد- لا النقد- بهدف إبراء ذمتى من تهمة التحيز. أما الثانية فغالباً ما تفشل فى منع بعض الإحباط من التسلل إلى الأعماق، مهما ارتفع مستوى العمل الفنى… ببساطة لأننى انتظر منها الكثير.
فى قلب وعقل كل منا طفل صغير لا يكبر مهما تقدم بنا العمر، فى الوعي واللا وعي، حنين جارف لسنوات البراءة الأولى، رغبة عارمة فى أن تستمتع مرة أخرى بالمذاق الصافى لطعم السعادة، فى أن تنعم بكونك غير مسئول عن نفسك وأفعالها، أن تتمرغ فى راحة عدم الالتزام تجاه أى شيء أو أى شخص أو قيمة تحافظ عليها أو مبدأ أو مصلحة.
البعض يهرب مباشرة تجاه طفولته، والبعض يجد الملاذ فى طفولة الآخرين، أو فى صنع معادل للأم الغائبة أو الأب الراحل، فى حضن زوجة أو صديقة أو زوج أو صديق أو حتى علاقة عابرة.
ورغم كل ذلك.. فإن هناك آخرين ينتظرون سعادتهم فى المستقبل، بينما يوجد بشر يعيشون ويموتون، دون أن يطرحوا على أنفسهم مجرد السؤال.
للوهلة الأولى يبدو الموضوع الذى يطرحه فيلم «أحلى الأوقات» بسيطاً.
ثلاث بطلات، أولاهن سلمى.. منذ انتقلت بها أمها إلى مسكن زوجها الجديد فى ضاحية المعادى، وهى تعزل نفسها عن العالم، أرادت الأم أن تعيد كتابة التاريخ، أن تبنى جداراً صلداً، يحجب عن ابنتها رؤية كل ما يتعلق بذكريات طفولتها «السعيدة» التى عاشتها فى شبرا، تلك المنطقة الشعبية المزدحمة بالبشر والحكاوى والحواديت.
كلما ارتفع الجدار، كلما تشرنقت سلمى فى عزلتها، ترفض الأصدقاء، تكاد تختبيء فى عدساتها اللاصقة، فلا تلحظ حتى ملامح من حولها من جيران.
ولحظة أن تفقد أمها فى حادثة عبثية، تتكشف لها حقيقة أنها قد فقدت الرابط الإنسانى الوحيد لها بالحياة، وعبر مجموعة من الرسائل التى تصل لها تباعاً، تبدأ رحلة البحث فى الماضى، تحت عنوان التنقيب عن صاحب الرسائل المجهول.
تتعرف عليها صديقتها القديمة «ضحي» فى مشهد بالغ الرقة، البطلة الثانية نموذج آخر للهروب والبحث عن السعادة، لكن إذا كانت سلمى تهرب إلى السعادة فى الماضى، فإن ضحى ترنو إليها فى المستقبل، فى عالم السينما، تتطلع أن تصبح نجمة، حتى قبلة خطيبها لا تشبعها، وتتطلع إلى قبلة حقيقية، تنالها من عمر الشريف أو رشدى أباظة!
تذهب البطلتان إلى يسرية، الضلع الثالث فى مثلث شلة الطفولة، نموذج للمرأة المقهورة، التى لا تملك رفاهية الهروب سواء إلى الخلف أو الأمام، زوج يمارس ذكورته فى جانبها السلطوى فقط على امرأة لا تطلب الكثير، ولا يتورع عن التلويح بالطلاق من حين إلى آخر لدرء مخاطر أى نزعات تمردية.
تتشارك البطلات الثلاث فى البحث عن كاتب الرسائل المجهول.
نقطة الانطلاق كانت الشك فى الأستاذ عبدالسلام، معلمهم القديم والذى لم تمنعه صفته فى الماضى من أن يقع فى حب تلميذته سلمى، بل وأن يكتب لها رسالة غرامية، أدت به إلى فضيحة كادت أن تقضى على مستقبله، ومع ذلك فإنه ظل يحتفظ برسالته، وأمله فى أن يسترجع حبه القديم، وحين تعود، يكتشف أنه قضى عمره ينتظر فتاة، لم يعد لها وجود، فيودعها، بعد أن يقبر معها رسالته.
ومن عبدالسلام إلى هشام جار سلمى فى المعادى هذه المرة، شاب يبدو غريب الأطوار، درس الهندسة ولم يمارسها يوماً، واختار بدلاً منها أن يصبح فنان عرائس متحركة «مارينيست»، وتنتهى مرحلة الارتياب به، بحالة حب حقيقية تجمعه بسلمى، إلا أنها لا تكتفى بها وتواصل رحلة البحث فى المجهول.
تقود الرسائل المتتالية الصديقات الثلاث إلى الشك فى والد سلمى المصور الفوتوغرافى، الذى لم تره منذ أربعة عشر عاماً، وحين تتخيل أنها ستقع على كنز سعادتها الحقيقية، تفاجئ أنه حتى لم يتعرف عليها، أب فوضوى يمارس الحياة على طريقة زوربا اليونانى البوهيمية، لا يتذكر عدد من تزوجهن من النساء، ولا يستطيع تمييز ملامح من خلفهم وراءه من أبناء.
وهكذا تفقد سلمى أحلام العثور على صاحب الرسائل وعلى الأب الغائب وعلى السعادة دفعة واحدة، وتدريجياً تقودها الأحداث إلى الدكتور ربيع زوج أمها، طبيب أطفال سرعان ما تكتشف، أنه اختار التخصص في معالجتهم، كى يحتفظ بمكانه بينهم، فقد طفله من زوجته الأولى فى لحظة عبثية أخرى، فقرر حين فقد زوجته أن يهرب من مواجهة الموت، لم يعترف به، وفى محاولته للهروب والحفاظ على ما تبقى من لحظات سعادته الحقيقية فى آن واحد، يبدأ فى السعى إلى توطيد علاقته بسلمى ابنة زوجته، يستخدم حيلة الرسائل، يشعر بها تقربها منه أكثر فأكثر، فلا يتوانى عن تكرار اللعبة، وكتعويض عن سعيه لافتعال علاقة أبوة، لا يتورع أن يشرع بالتوازى فى تأسيس مشروع علاقة عاطفية غير متكافئة، مع ضحى صديقة سلمى.
ولا تملك فى النهاية سوى أن تتعاطف مع الجميع.
زوج يسرية الذى لا يعلم سوى القهرة وسيلة للحفاظ على أسرته، وخطيب ضحى الذى يسعى لكبت تطلعاتها خشية أن يفقدها، وحتى والد سلمى الذى يتخيل سعادته مع زوجته الأولى وخليلاته فى الجنة.
وكما فعلها هانى خليفة فى فيلمه سهر الليالي، فعلت هالة خليل فى أحلى الأوقات، حين اختارت أن تختتم فيلمها بالنهاية السعيدة، ليخرج بعدها المشاهد العادى متصوراً أن كل المشاكل قد حلت، وأن الأمور تسير على ما يرام.
كذلك لم تسع إلى أن تطرح الكثير من خلال فيلمها الروائى الأول، ربما يكون هذا ما احبطنى- بحكم سقف توقعاتى المرتفع- كما حاولت أن تضفى بعض الملامح التجارية من خلال القالب الكوميدى فى الكثير من المواقف، وعبر نهاية الفيلم نفسها، وفى المقابل قدمت عملاً سينمائياً جيداً ومبشراً على مستوى التكنيك واختيار الممثلين وقيادتهم ومراعاة التفاصيل الدقيقة.
ولم تنس أيضاً أن توجه تحية إلى مدرسة الواقعية الجديدة باستضافتها لأحد روادها المخرج خيرى بشارة صاحب فيلم العوامة 70 باكورة إنتاج هذه المدرسة.
فهل تنجح هذه الحالة وتلك التوليفة فى كسب المزيد من الأرضية الجماهيرية لهذا الجيل من المخرجين؟
شباك التذاكر وحده سيجيب عن هذا السؤال مع مراعاة سوء التوقيت.