محمد أبوالحديد، منذ أن وقعت عيناي على هذا الرجل وأنا أحبه.
شعور جارف بالتعاطف والألفة معه، كان يسيطر علي، كلما رأيته بعد ظهر يومي الخميس والسبت من كل أسبوع، لمدة تجاوزت العامين.
كنت محرراً ثم صرت رئيسا لقسم البورصة رغم أنف مدير التحرير، وفي المقابل ظل هو بمحض إرادته عضواً بالديسك المركزي للجريدة.
ولغير المتخصصين في الصحافة، فإن الديسك المركزي ببساطة، هو المطبخ الذى تصنع فيه المطبوعة، وتحشد إدارتها فيه عادة أنبه عقولها وأرفع أقلامها شأنا.
كان في أوائل الخمسينات من العمر، يمتلك وجها خجولا، خجل من النوع الفطري النادر، الذي يحتفظ به نفر محدود من الناس من مرحلة الطفولة، لا ذلك الخجل المتصنع للأفاعي استعدادا للغدر والهجوم، ولا ذلك الذى تتخذ منه بعض الشرقيات مهنة لإثبات الطهارة.
ابتسامة حزينة لا تفارقه يظللها شعره الأبيض، ليشكلا مع قلمه المحترف، دلائل دامغة على تاريخ كبير، يسبقه في عالم الصحافة تتغلب فيه الانكسارات على الانتصارات، والخيانة على الوفاء، والنفاق على الصدق.
وسط أجواء محملة بالنميمة والضغينة والدسائس، تعودت أن ألمح أبوالحديد وحده، منزويا على مقعده في ركن الغرفة، يتعاطف معك بنظرة عينيه المبتسمة، تعبيرا عن إحساسه بصواب موقفك، ويعتب عليك -إذا ما استشعر العكس-، بإشاحتهما بعيدا عنك، ودفنهما في حفنة صغيرة من الأوراق، المتراصة دائما على سطح مكتبه.
حتى في ظل سيادة أجواء السلام والوئام، كان من الصعب، أن تضبط أبوالحديد يتحدث، وكأنه اتخذ من الصمت مأوى، يتحصن به من زلة لسان، يسيء بها إلى زميل، أو تدخله دون قصد، في صراعات لا شأن له بها، كان من الواضح أنه قد اتخذ قرارا مسبقا بعدم الاشتباك.
أشياء كثيرة كنت أرصدها، تجمعه مع صديقه الروائي الموهوب محمد ناجي، الذى يعمل في نفس الجريدة، فهما يتشاركان معا في نفس الجيل، وفي الخصال، الأدب الجم والخجل وبقايا نقاء مرحلة الشباب.
موهبتان عصفت بهما الانكسارات لفترة طويلة، فعقدا العزم ألا يضيعا ما تبقى من العمر في معارك وهمية، مهما حاول البعض توريطهما، وحتى لو بدت مواقفهما غير مثالية أو غير مفهومة، أو سكوتا عن حق لا طاقة لهما ولا رغبة في الدفاع عنه، فلا صوت يعلو على صوت معركتهما الحقيقية، مشروع أبوالحديد في الصحافة، ومشروع ناجى الأدبي.
ودارت الأيام، فغادرت الجريدة في صخب، وتركها أبوالحديد كعادته في هدوء، ثم مرت السنوات لتحمل لى بشرى رائعة، نبأ انتصار أبوالحديد في معركته الأساسية، وذلك بصدور قرار تعيينه مؤخراً رئيساً لمجلس إدارة دار التحرير.
تابعته عبر الأسابيع الماضية، فزادت سعادتي، وأنا أراه يخطو خطوات موفقة تباعا، بدأت بنشره لأول مرة في تاريخ الصحف الحكومية حقيقة الوضع المالى للمؤسسة، تلاها مجموعة من الإجراءات استهدف بها إصلاح ما أفسده السلف، تمثلت في فتح مغارة على بابا، وإفراغ ما فيها من ثروات وسيارات، وتكريسها لخدمة العاملين بالدار، وكذلك رد الاعتبار لكبار صحفييها كالأستاذة محسن محمد، وكامل زهيرى، وصلاح عيسى، وعبدالعال الباقورى، وإعادتهم للكتابة المنتظمة في جريدة الجمهورية، بعد أن أطاح بأقلامهم خارج المؤسسة سمير رجب رئيس مجلس الإدارة السابق.
وأقسم إنني تابعت بتأثر شديد، ما نقلته الصحف وتناقله الرواة، عن خطاب أبوالحديد في إحدى الندوات، التي عقدت مؤخرا في نقابة الصحفيين، وتحدث فيها عن تعاطفه الشديد مع الأوضاع المتردية، التي وصل إليها حال المحررين الشبان في المؤسسات القومية «الحكومية»، ومشاعره تجاه ما كان يصيبهم من مذلة، وهم يتوسلون التعيين في احتفالات المؤسسة الرمضانية -هذا هو أبوالحديد الذي أعرفه-، وكذلك مطالبته بتفعيل دور النقابة والجمعيات العمومية للصحف في محاسبة مجالس الإدارة الجديدة، وأن تخضع الصحف القومية لأعمال المراقبة والمحاسبة من جانب الأجهزة الرقابية حتى لا تتحول إلى عزب وإقطاعيات، إلى آخره.
كل هذا جميل، ويبعث على الأمل في تولى قيادات محترمة، راغبة فى الإصلاح، لزمام الأمور في المؤسسات القومية بعد سنوات طويلة من الفساد والإفساد.
قيادات تشعر بمعاناة الصحفيين، تعلم الداء، وتستحضر الدواء، قيادات طاهرة اليد و«نظيفة»، لولا أنني اكتشفت مؤخرا، أن كلمة «نظيفة» ذاتها، يمكن أن تتحول إلى سلاح ذى حدين!.
فقد هالني الأستاذ أبوالحديد، بما كتبه في عموده المنشور يوم الخميس الماضي، في العدد الأسبوعي من جريدة الجمهورية على مستويي الشكل والمضمون.
على مستوى الشكل، اعترف أن قلقا قد اعتراني، وأنا أتأمل صورة الأستاذ أبوالحديد الجديدة، التي تصدرت العمود، شيء ما قد تغير وبات جلياً، فلأول مرة منذ أن عرفته، تختفي من على وجهه ابتسامة الخجل، ليحل محلها، ما تراءى لي، وكأنها ضحكة المنتصر.!
وزاد من انزعاجي، أن العمود قد جاء عنوانه «نريدها صحافة نظيفة»، وهو ما ذكرني -لا شعورياً- بشعار سيء السمعة ولكن فى مجال آخر، وهو شعار «السينما النظيفة»، والذي رفعه مجموعة من الموزعين، سيطروا على السوق السينمائي خلال السنوات الماضية، قاموا خلالها من أجل تحقيق مكاسب رخيصة، بفرض أفلام بالغة الرداءة، ربما تفوقها في الجودة و«النظافة» معا بعض أفلام البورنو.
نحيت سوء الظن جانبا، والتهمت العمود التهاما، متمنيا أن تخيب الخواتيم المقدمات، فإذا به يتمحور حول انتقاد الأستاذ أبوالحديد، لما أسماه تجاوز بعض أعداء الحرية والديمقراطية -دون أن يحدد هويتهم على وجه الدقة-، لكل التقاليد والأعراف والقيم المهنية، منذ أن طرح الرئيس مبارك تعديل المادة 76 من الدستور، مطالبا الجميع بالوقوف في وجه هؤلاء، الذين يحاولون -على حد تعبيره- سرقة الصحافة المصرية منا!.
والحقيقة أنني مندهش، أي صحافة مصرية هذه، التى سيسرقها البعض منا؟!، هل هي الصحافة القومية، التي يعلم الأستاذ أبوالحديد جيداً، تردى أحوالها إلى درجة، يتعفف معها أي لص محترف عن سرقتها؟!.
لقد أجهدت نفسي في قراءة العدد الأسبوعي -الذي نشر فيه الأستاذ أبوالحديد عموده- من الجلدة للجلدة، عسى أن أجد فيه أثرا للصحافة النظيفة التى يطالب بها، وأصارحك يا أستاذ محمد، إنني لم أجد فيها مثل هذا الأثر، بل على العكس، طرحتني أرضا نفس آثار الزمر والتطبيل والنفاق البائدة من العهد القديم، فقل لى بالله عليك -وأرجو ألا تضعني في خانة أعداء الديمقراطية-، من هذا الساذج، الذي يرغب في السطو على هذا الإرث الرخيص؟!.
أستاذ محمد، يعلم الله أنني أحبك فعلا، وأقدرك وأحترمك عن قناعة، لا نفاقا، وأعرف جيدا، أنني لست في وضع، يسمح أو يتيح لي توجيه النصح أو الوعظ لك، ولكن ألا تعلم يا أستاذ أبوالحديد، أن تأييدك- وفي هذا التوقيت بالذات- لبيان المجلس الأعلى للصحافة، الذى تسيطر عليه الحكومة من خلال الوجوه القديمة، التى حولت مؤسساتها إلى عزب على حد قولك، الداعي إلى التزام الصحافة المصرية قومية وحزبية ومستقلة، بميثاق الشرف المهني وقيم المهنة الرفيعة، خلال تغطيتها لانتخابات رئاسة الجمهورية.. يفتح الباب لتأييد أعداد كبيرة من الصحفيين، الذين اكتسبت حبهم وتقديرهم، لأى إجراءات قد تتخذها الحكومة خلال المرحلة القادمة، ضد زملائهم أو الصحف المستقلة التى يعملون بها، بحجة أنها أو أنهم قد خرجوا عن قيم المهنة الرفيعة!.
إن الصحافة يا أستاذ محمد كما تعلم، تحكمها تقاليد مهنية محددة من حيث محاولة توخى الموضوعية -وليس الحياد-، ومنح الفرصة للأطراف المختلفة للتعبير عن آرائها، وتحري الدقة في الأخبار المنشورة، وبذل الجهد المعرفي اللازم للوصول إلى الحقيقة.
أما القيم، وتقدير الصالح العام، والموقف السياسي والأخلاقي والاجتماعي، فهي كما تعلم أيضا، مسائل معيارية، لا تستقيم محاسبة الناس -وليس الصحفيين فقط- على اعتناق حزمة منها دون الأخرى.
فاحترس من نفسك أيها الفارس الشجاع، وأعلم أن نظافة اليد، ليست شرطا كافيا لإصلاح الصحافة، وإنما شرط ضروري، وإن إصلاح أحوال الصحفيين في مؤسساتهم، هو مجرد بداية -وليس نهاية- لعملية الإصلاح، ينبغي أن يستتبعها، مراحل أخرى، أهم ما فيها تدريبهم وتشجيعهم على تطبيق القواعد المهنية، دون خوف من الإطاحة بهم، أو التأثير على حراكهم المهنى داخل صحفهم.
أئذن لي يا أستاذ محمد أن أزعم أن عمودك الأخير، لا يشجع أبناءك الصحفيين على المضي في هذا الاتجاه.
واسمح لي بطلب أخير.. أرجوك استبدل صورتك الجديدة بالأخرى القديمة.